واجه الاقتصاد السوداني جملة من الصدمات المتتالية؛ سواء المرتبطة بالتطورات الداخلية العاصفة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، وكذلك المرتبطة بتداعيات التطورات الخارجية، لا سيما تلك المتعلقة بالحرب في أوكرانيا وتبعاتها.
وتبعاً لتلك التحديات المتزامنة تتفاقم أزمة الاقتصاد السوداني، وبما ينعكس بصورة مباشرة على الوضع المعيشي بالبلاد، في وقت تسوق فيه الإحصاءات الرسمية معدلات إيجابية بخصوص معدلات التضخم التي تشهد تراجعاً متتالياً بعد أن بلغت في وقت سابق مستويات الـ 400 بالمئة.
فهل يعكس تراجع التضخم حقيقة الوضع المعيشي في السوداني؟ وهل يعني ذلك أن السودان على الطريق الصحيح لكبح جماح التضخم؟
أحدث البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في السودان تشير إلى أن معدلات التضخم بالبلاد آخذة في التراجع، على النحو التالي:
* تراجع معدل التضخم السنوي في السودان إلى 63.3 بالمئة في شهر فبراير الماضي، بينما كانت النسبة في يناير 83 بالمئة.
* بلغت معدلات التضخم في السودان 154.9 بالمئة العام الماضي، و359.1 بالمئة في العام 2021.
* تشهد معدلات التضخم بالبلاد تراجعاً خلال الأشهر الماضية، وذلك بعد أن تخطت في وقت سابق الـ 400 بالمئة منتصف العام 2021.
* يستهدف السودان -طبقاً لتقديرات وزارة المالية- خفض مستوى التضخم إلى 25 بالمئة بنهاية العام الجاري 2023.
* تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى توقعات بانخفاض معدل التضخم في المتوسط عند حدود 76.9 بالمئة في 2023
طريقة حساب معدلات التضخم
يقول الخبير الاقتصادي محمد الناير، في تصريحات ، إن هناك جدلاً كثيفاً في السودان حول مدى صحة معدلات التضخم الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء بالبلاد، على النحو التالي:
* أولاً: طريقة حساب معدل التضخم أو المعادلة التي يتم على ضوئها لا خلاف حولها، وهي المعمول بها في كل دول العالم ومعتمدة من المؤسسات الدولية، لكن المشكلة تكمن في أن ميزانية الأسرة التي يجب أن يتم مسحها كل خمس سنوات -طبقاً لمقاييس عالمية- لتحديث أوزان المجموعات السلعية والخدمية التي يقاس عليها معدل التضخم أو الرقم القياسي لأسعار المستهلك، كان آخر مسح في السودان في العام 2007 أي قبل 16 عاماً، ولذلك "نرى أن التقارير التي تصدر قد لا تتسم بالدقة العالية"، ويتعين على وزارة المالية السودانية ضرورة إجراء مسح عاجل يبنى عليه حساب معدل التضخم بصورة صحيحة.
* ثانياً: التضخم يقاس في السودان بإجراء مسح شهري لما بين 600 إلى 700 سلعة وخدمة يفترض أن يتم مسح أسعارها في الأسواق شهرياً، بينما السودان قطر مترامي الأطراف ولا يُتوقع أن يكون الجهاز لديه من الدعم اللوجيستي ما يمكنه من إجراء هذا الأمر شهرياً، ومن هنا نطالب المالية بتمكين الجهاز بكل الإمكانيات اللازمة لتغطية هذا العدد الكبير من السلع والخدمات وكل الأسواق السودانية.
وتبعاً لذلك، يشير إلى أن المواطن لا يشعر حينما يتم الإعلان بصورة مستمرة عن انخفاض معدل التضخم بأي أثر بصورة واضحة، بل إن المواطن يشعر بتآكل القوة الشرائية للعملة في ظل انخفاض معدلات الدخول، وبما أصاب الاقتصاد والنشاط التجاري في السودان بحالة من الركود التضخمي.
ويستطرد الناير: "إذا افترضنا أن معدل انخفاض التضخم المعلن صحيح، فإن ذلك يعكس في الوقت نفسه آثاراً سلبية على الاقتصاد السوداني أخطر من معدل التضخم، لجهة ما وصل إليه النشاط التجاري في البلاد من حالة من الركود التضخمي غير مسبوقة، وهذا قد تكون له انعاسكات سالبة على قدرة المواطنين على دفع الإيرادات الضريبية التي تعتمد عليها الدولة بأكثر من 60 بالمئة".
ويواجه السودانيون أزمة فيما يتصل بأسعار ووفرة السلع الأساسية، لا سيما الخبز والطحين والوقود، وقد فاقمت تبعات الحرب في أوكرانيا الضغوطات الملقاة على كاهل المواطنين.
أوضاع إنسانية متفاقمة
وتضيء أحدث التقاير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، على جوانب من المشهد الاقتصادي بالبلاد، ومما ورد بالتقرير:
* الاحتياجات الإنسانية في جميع أنحاء السودان وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وهناك حاجة لتقديم أكثر من 1.7 مليار دولار لتقديم المساعد الإنسانية والحماية إلى 12.5 مليون شخصاً من الأكثر ضعفاً بالبلاد.
* ثمة مخاطر أربعة هي الأكثر أهمية في 2023: (الصراع والكوارث الطبيعية وتفشي الأمراض والتدهور الاقتصادي).
ركود تضخمي
من جانبه، يوضح الاقتصادي السوادني الدكتور الهادي محمد إبراهيم، أن السودان يشهد ركوداً تضخمياً، وتراجع معدلات التضخم على النحو المذكور في بيان الجهاز المركزي للإحصاء ليس دليلاً على التعافي الاقتصادي.
ويشرح إبراهيم ذلك بقوله: "كانت هناك إجراءات للإصلاح الاقتصادي في السودان قبل أكتوبر 2021 يُعول عليها بشكل كبير، حينها كان سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني 370 جنيهاً تقريباً للدولار الواحد، والآن يصل السعر إلى حوالي 600 جنيه للدولار في ضوء ما شهده البلد من تطورات".
ويتابع: "من ثم حدثت طفرة كبيرة بالأسعار، وصارت الأسواق تعاني من الركود، بينما المواطن لا يستطيع الحصول على الكثير من الضروريات، وبالتالي تراجعت السلة الغذائية التي تحسب بناءً عليها معدلات التضخم.. هذا يعني أن انخفاض معدل التضخم هو انخفاض ظاهري، بينما الواقع يشير إلى استمرار زيادة الأسعار بينما الأسواق تعاني من الركود في ضوء تراجع مشتريات المواطنين والتأثير على السلة الغذائية تبعاً لذلك".
وحول المستهدفات الرسمية بشأن الوصول لمعدلات التضخم في حدود 25 بالمئة في ديسمبر المقبل، يشير الاقتصادي السوداني في معرض حديثه مع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أنه "إذا كانت المؤشرات تشير إلى أن هناك كساداً اقتصادياً ومعدل نمو سالب وعجز كبير جداً في الموازنة مع تغطية العجز بالاستدانة من النظام المصرفي، مع عدم وجود موارد حقيقية وكافية للدخل .. وعليه فإن تلك المستهدفات لا تعدو سوى كلاماً سياسياً ليس له ارتباط اقتصادي بالوقع المعيشي الحالي بالبلاد".
* حالة الأمن الغذائي تزداد تدهوراً بالبلاد، فقد استمر عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في الزيادة للعام الثالث على التوالي، وصولاً إلى 11.7 مليون شخص (بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية)
* أشار تقرير مكتب الأمم المتحدة إلى تداعيات فترات الجفاف والصراع، وانخفاض إنتاج الحبوب وارتفاع الأسعار وتآكل سبل العيش بسبب الأزمة الاقتصادية متعددة السنوات والنزوح المطول.
* حوالي 4 ملايين طفل دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات يعانون من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى خدمات التغذية الإنسانية المنقذة للحياة في عام 2023.
* أسهم تدهور الاقتصاد ومعدلات التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والنزوح في تدهور الوضع الغذائي في عام 2022 ومن المرجح أن يستمر خلال 2023.الوضع المعيشي في تدهور مستمر
وإلى ذلك، يوضح الخبير الاقتصادي السوداني، الدكتور وائل فهمي بدوي، في تصريحات أن "الإحصاءات المرتبطة بتراجع التضخم لا تعكس الوضع المعيشي في الخرطوم، والذي هو في تدهور واضح، كما لا تعني أيضاً أي تراجع في الأسعار الآخذة في الزيادة بشكل كبير".
ويشدد على أنه "بينما تستهدف الموازنة النزول بمعدلات التضخم بنهاية ديسمبر المقبل في حدود 25 بالمئة، فهذا يتم بناءً على افتراضات محددة بالميزانية مثل التدفقات الخارجية من الأموال المجمدة، إنما ليست بالضرورة تعكس الواقع الذي هو في حقيقة الأمر لا يبشر بذلك كثيراً (..)".
ويشير إلى معضلة ضعف القوة الشرائية بالنسبة للمواطنين، وفي ظل وصول الدولار إلى ما يقارب الـ 600 جنيه، وجميعها عوامل تعكس حالة عدم التفاؤل في هذا السياق، موضحاً في الوقت نفسه أن النظام الذي يتم بناءً عليه حساب معدلات التضخم لا يعكس الوضع الحقيقي (..)".
ويقول إن السودان يعتمد على استيراد معظم احتياجاته من سلة الاستهلاك من الخارج، ومع ارتفاعات الأسعار الخارجية وسعر الصرف الحالي، فإن الأسعار سوف تستمر في الزيادة.